فهرنهايت 451
Fahrenheit 451
7/12/1981
عزيزي المشاهد…مساء الخير…
أحييك وأرحب بك مع حلقة جديدة من برنامج “نادي السينما” وأدعوك لقضاء مائه وعشر دقائق مع فيلم المخرج الفرنسي الكبير فرانسوا تروفو: “فهرنهايت 451”.
فهرنهايت 451 هي درجة الحرارة التي تحترق عندها الكتب في الدولة التي رسمها بخياله أديب الخيال العلمي الأميركي راي برادبيري ـ الذي قدمنا له منذ أسبوعين فيلم “الرجل الموشوم” المأخوذ عن أحدى قصصه.
ولروايته هذه “Fahrenheit 451” التي صدرت في عام 1952 قصة أرويها لك.
في نهاية الأربعينيات شكّل السيناتور الأميركي جوزيف مكارثي لجنة فريدة من نوعها في التاريخ الحديث للولايات المتحدة الأميركية أطلق عليها “لجنة النشاط غير الأميركي”. وكانت المهمة الأساسية لهذه اللجنة هي بالتحديد: التفتيش في عقول الفنانين والكتاب في هوليوود والمفكرين الأميركيين عامة عن أعداء وهميين تخيلت اللجنة أنهم يمارسون نشاطًا “غير أميركي” أي معاد ومضاد للأسلوب الأميركي في الحياة. واستجوبت اللجنة عددًا لا بأس به من الكتاب والفنانين ورفض بعضهم المثول أمامها أو الاعتراف بها باعتبار أنها تستند إلى منطق لا معقول… منطق عبثي يفترض إمكانية التفتيش في عقول الناس، أما في نظر اللجنة فلم تكن المسألة تعدو أن تكون مساءلة حول مواقف اعتبرتها “تقدمية” آنذاك.
وكانت خلاصة أعمال اللجنة سيئة السمعة تحريم “التفكير” في اتجاهات معينة، وفرض عقوبات على بعض المشتبه فيهم بالتفكير بوضعهم على قوائم سوداء.
وفي ذروة ما أسماه بالإرهاب المكارثي كتب راي برادبيري روايته “فهرنهيت 451” منطلقًا من أرضية واقعية فعلية مستلهمًا تحقيقات اللجنة كأساس، وسبح بخياله فيما يمكن أن يحدث إذا قام المجتمع على هذه الأرضية، وقدم لنا صورة ربما اُعتبرت واحدة من أعظم أعمال النقد الاجتماعي في الأدب الأميركي، ورأى راي برادبيري أن مشكلة “قهر العقول” مشكلة ممكنة الحدوث وقد بدأت بالفعل في زماننا المعاصر. وقد تحدث برادبيري عن قوائم الكتب التي حرّمت اللجنة قراءتها، وقال في اجتماع عام آنذاك “إنني أقف بوضوح ضد أي إنسان أو جماعة تقول: هذا يجب أن تقرأه وذاك ممنوع الاطلاع عليه، إنني أريد مكتبة حرة تمامًا حيث أجد فيها “كل” الكتب على الرفوف ـ كل الكتب العربية وكل الكتب البيضاء وكل الكتب السوداء وغيرها ـ كلها جميعًا مرتبة أمامي بحيث أختار ما أريد وأستقي المعلومات من أي مصدر أريد.”
وأكد برادبيري أنه لا أمل للإنسانية على الإطلاق في الوصول إلى قرارات تتسم بالذكاء والبصيرة ما لم يسمح لها بحرية الإطلاع.”
وهكذا “يكبّر” برادبيري في “فهرنهيت 451” هذه المشكلة المعاصرة إلى ضعفي حجمها تقريبًا مادًا إياها إلى مستقبل قريب جدًا، وهو بهذا يلتقي مع كل كتاب أدب الخيال العلمي تقريبًا كما ذكرت منذ أسبوعين عند تقديم “الرجل الموشوم” – يلتقي معهم في توجيه إنذار قوي للإنسان المعاصر بأن مستقبل أفعال اليوم ليس بعيدًا، وأن قدر الإنسان المقبل مرهون بالخضوع لرقابة صارمة، وربما للدكتاتورية ما لم يقم بإصلاحات جذرية… الآن.
يرسم راي برادبيري صورة قاتمة ومروعة لمجتمع بلا ذاكرة وبلا تاريخ يكن عداوة أصيلة للماضي ويخلو من تصور واضح للمستقبل، والشيء الوحيد المؤكد في حاضره هو أنه يعادي الكتب.
هنا نلتقي بحارق للكتب اسمه مونتاج، حارق للأفكار وهو جاهل كالآخرين ومعاد للكتب دون أن يفهم لماذا؟!
ولكنه عندما يدرك أنه يحرق أفكار العالم يبدأ مرحلة تحول تستغرق الفيلم بكامله تقريبًا، الصورة الغالبة في الفيلم والرواية هي صورة النار التي تؤكد عبر الأحداث أنها يمكن أن تكون سلاحًا ذا حدين، إذا لم يحذر منها الإنسان.
تنقسم رواية برادبيري إلى ثلاثة أجزاء:
ـ الجزء الأول بعنوان “المدفأة والسمندل” (وهو الحيوان الخرافي الذي يمكن أن يعيش في النار).
ـ الثاني بعنوان “الغربال والرمال”.
ـ والثالث بعنوان “يحترق متوهجًا”.
أما أحداث الرواية فتدور في زمن أصبحت فيه كل المنازل محصنة تمامًا ضد الحريق، وبالتالي لم تعد هناك حاجة في كل أنحاء العالم لرجال الإطفاء، ولهذا أصبح لهم واجب جديد: هم الآن حماة السلام العقلي للمجتمع، وهم القضاة والرقباء في نفس الوقت، والكتب شر لابد من تدميره، ويعبر الكابتن بيتي رئيس إدارة الإطفاء عن فلسفة المجتمع بوضوح في أكثر من موضع، إنه يؤكد أن الكتب لا تحتوي على أي شيء يمكن تصديقه، إنها ـ في نظره ـ مجرد حكايات عن أناس ليس لهم وجود، مجرد أضغاث أحلام، وهو يقول لمونتاج أن كل إنسان قد أغضبه على الأقل مقطع في كتاب، الملونون غاضبون من حكاية “سامبو الأسود الصغير” وهناك بيض غير سعداء “بكوخ العم توم”، ولهذا يجب حرق كل الكتب لإسعاد كل إنسان، وهو يتغزل في النار “النار وضاءة، النار نظيفة، وإذا ما أحرقنا كل الكتب فلن يضطر أحد إلى التفكير أو اتخاذ القرارات، ستأتي الصور محل الكتب، والرسوم المتحركة والألعاب الرياضية، وهكذا يسعد كل إنسان.”
هذا عرض سريع لفلسفة المجتمع على لسان قائد أهم الفرق العاملة فيه.
ما هي الصورة التي يرسمها برادبيري لمجتمع من هذا النوع وما هو نمط الثقافة البديلة التي يروجها أرباب هذا المجتمع؟
تلفزيون على الجدران وفي كل مكان، برامج تافهة لا تفيد أحدًا وتحرص بالطبع على تفريغ أي معنى من العاطفة، التلفزيون هنا هو المؤسسة التي تروج وتبيع هذا المجتمع لساكنيه، وهو وسيلة اتصالهم الأساسية بما يدور فيه.
في هذا يقول “الحكيم” الكابتن بيتي لمونتاج:
“إذا كانت الحكومة عاجزة، كثيرة التكاليف، ترهق الناس بالضرائب الفادحة، فمن الأفضل للجميع أن يتحملوا ذلك بدلًا من أن يقلقوا الهدوء يا مونتاج، اشغل الناس في هذه الحالة بمسابقات عن الأغاني المشهورة بإسقاط أو تغيير بعض الكلمات ليتذكروها، أو عن أسماء عواصم الولايات أو الإحصاءات الزراعية، أحشد أذهانهم بمعلومات لا يعارض بعضها البعض الآخر، وبالحقائق حتى يشعروا أنهم بارعون، راضون عن أنفسهم، وعندئذ يشعرون أنهم يفكرون، في الوقت الذي لا يفكرون فيه في الحقيقة، لا تعطهم أشياء فيها مزالق كالفلسفة أو علوم الاجتماع مما يعقد الأمور إلى الحزن والأسى”، “نحن فتيان السعادة، ونحن نقف ضد تلك الموجة الضئيلة التي تريد للجميع الشقاء والتصارع حول النظريات والأفكار، ويجب علينا الثبات في موقفنا.”
شخصية مونتاج التي يلعبها هنا الممثل أوسكار فيرنر هي التي تستعرض لنا الصورة ونقيض الصورة في هذا المجتمع، فهي كشخصية محورية تعرفنا على بيتي الكابتن كما تعرفنا على فيبر عضو جماعة الكتاب الذي يستعرض لنا فلسفة مغايرة تمامًا ربما احتوت على مخاوف برادبيري الفعلية من تطور مجتمعنا الراهن، يشرح لنا فيبر كيف أن الكتب تقدم لنا الحقيقة العارية ليس فقط لما هو حسن بل لما هو سيئ أيضًا، إنها تظهر المسام في وجه الحياة، ويجد مجتمعنا في هذا أمرًا لا يبعث على الراحة، ولهذا بدأ المجتمع برنامجًا لا يسمح فيه للإنسان بوقت فراغ يفكر فيه لنفسه، فحوائط التلفزيون المحيطة به لن تسمح له بذلك، إنها تقول للإنسان في ماذا يفكر، ولا يستطيع أحد أن يحاور جهاز تلفزيون، ويؤمن فيبر بأن الحقائق الموجودة في الكتب لا يمكن مرة أخرى أن تزود مجتمعنا بقيم كما كانت في الماضي، ما لم تعود الكتب إلى الإنسان أولًا ثم يمنح وقتًا كافيًا للتفكير فيها قبل أن يعمل أخيرًا بمقتضى ما تعلمه منها، ويؤمن فيبر أن هذا لا يمكن أن يحدث.
بين الكابتن بيتي وفيبر هناك شخصيتا ميلدريد وكلاريس، وتؤدي دوريهما الممثلة جولي كريستي، وهما وجهان معبران عن قطبي الصراع في هذا المجتمع، يصف برادبيري وجه كلاريس عاشقة الكتب بقوله:
“كان وجهها نحيفًا أبيض كالحليب تعبر ملامحه عن نوع من الجوع الوديع الذي يلمس كل شيء بفضول لا يمل.”
أما ميلدريد زوجة مونتاج وعدوة الكتب فيصفها بقوله:
“كان وجهها كجزيرة مغطاة بالثلج، قد يسقط المطر عليها ولكنها لا تحس به”، ويصفها من وجهة نظر زوجها قائلًا:
“لم تكن المرأة التي على الفراش أكثر من طبقة صلبة من المرمر تم الوصول إليها”…
وبين المرأتين يقف أيضًا مونتاج حارق الأفكار القلق.
تقول كلاريس لمونتاج:
كلاريس: هل تعرف؟
مونتاج: ماذا!
كلاريس: الناس لا يتكلمون عن شيء.
مونتاج: لا بد أنهم يقولون شيئًا عن شيء ما.
كلاريس: كلا لا شيء، بل يذكرون أسماء عدد من السيارات والثياب أو حمامات السباحة في الغالب ويقولون “يا للجمال”، ولكنهم جميعًا يقولون نفس العبارات ولا يقول أحد شيئًا مخالفًا لما يقوله الآخر، ويقضي أغلبهم وقتهم في المقاهي ويتندرون ويتبادلون النكات، وتتكرر نفس النكات كل يوم، أو يضيئون جدار الموسيقى فتتوارد عليهم النماذج الملونة من أعلى إلى أسفل.
وتكون علاقته بكلاريس عاشقة الكتب السبب الأساسي في اكتشافه ذاته.
ها هو يعبر عن نفسه لزوجته قائلًا:
“في كل ساعة تمر أشياء كثيرة ملعونة في الجو، كيف تصعد إلى الجو في كل ثانية من أوقات حياتنا، لماذا لا يتكلم أحد في هذا الشأن، لقد بدأنا حربين ذريتين وانتصرنا فيهما منذ عام 1960. هل كانت نتيجة ذلك أننا نلهو كثيراً هنا وننسى ما يعانيه العالم من فقر شديد، لقد سمعت شائعات تقول أن العالم يموت جوعًا وأننا ممتلئو البطون، فهل صحيح أن العالم كله يكد ويكدح ونحن نلهو، أيكون هذا هو سبب كراهية العالم لنا كل هذه الكراهية، ولقد سمعت أخيرًا شائعات حول هذه الكراهية أيضًا، أتعرفين السبب؟ أنا لا أعرف، ربما تخرجنا الكتب من كهوفنا، وقد تحول هذه الكتب عن ارتكاب مثل هذا الخطأ الجنوني الملعون مرة أخرى، أنا لا أسمع تلك الشخصيات التلفزيونية الملعونة على جدار غرفة الاستقبال تذكر شيئًا عن هذا.”
إذا كان برادبيري ينطلق من أرضية واقعية في عام 1950، فهل يمكن أن يكون تاريخ الاضطهاد البشري للكتب مجرد حلم أو كابوس يمر سريعًا في الذاكرة الإنسانية، إلى الحد الذي يثير عنده مجرد قراءة كتاب لديكنز، “دافيد كوبر فيلد” مثلًا…مشاعر جياشة بحرية الإنسان في التعامل مع أفكاره، على النحو الذي نراه عند مونتاج بطل الفيلم والرواية.
إذا كانت رؤية برادبيري واقعية تقريبًا فلا شك أن لها تاريخًا رهيبًا سنستطلع بعض آفاقه مع ضيف الحلقة الأستاذ الدكتور فؤاد زكريا رئيس قسم الفلسفة بجامعة الكويت.
حوار مع الدكتور فؤاد زكريا
عرض الفيلم
عزيزي المشاهد…
بقيت نقاط كثيرة لم أتناولها في هذا التقديم، وأود أن أوضح وأؤكد أن ما أقدمه هنا هو مجرد تقديم للفيلم وليس تحليلًا شاملًا له وإلّا أفضت لساعتين على الأقل!!
ومع ذلك وقبل أن تشاهد الفيلم أود أن أمر بسرعة كبيرة على بعض الملاحظات:
المخرج فرانسوا تروفو أقدمه لك الليلة لأول مرة، وتروفو هو نجم “الموجة الجديدة” الفرنسية منذ عام 1959 وإلى يومنا هذا، و”فهرنهيت 451″ هو فيلمه الخامس، أخرجه في عام 1966.
تروفو استلهم رواية برادبيري ولم ينقلها حرفيًا إلى الشاشة، ووضع فيها تصوراته على نحو سينمائي بالطبع بما أضاف لرواية برادبيري الكثير.
اظهر تروفو مثلًا اهتماما شديدًا بالتفاصيل، فنراه يركز على الصورة الذاتية لشخصياته، فنرى امرأة عجوزًا مع كتبها تقرر أن تشتعل فيها النيران مع كتبها كجان دارك أخرى، ثم يقطع إلى غلاف “مجلة كراسات السينما الفرنسية” التي كان يعمل بها في شبابه الباكر، فنرى صورة راهبة من فيلم لجاك ريفيت صادرته الحكومة الفرنسية، أو وهو يجعل أبطاله الناجين من “محرقة” الأفكار يحفظون الكتب ويرددونها في مشهد من أروع مشاهد الفيلم في تحدي البقاء رغم الجليد المحيط في الغابة. اهتمامه بالملابس كان اهتمامًا دراميًا، فملابس رجال الحريق سوداء كملابس الجلادين يقابلها اللون الأحمر الزاعق، وهذه هي الوحدة اللونية للفيلم بكامله، ولهذا نشعر عندما ننتقل إلى الغابة بحاجتنا إلى الأخضر كمخرج من هذا الجو الكابي.
ويهتم تروفو هنا بأداء جولي كريستي التي تلعب دورين وتعبر في كل منهما ـ رغم الاختلاف البيّن بين الشخصيتين ـ عن ملامح كل شخصية، فهي تعتمد على التعبير المركز بوجهها ونبرة صوتها وحركة جسدها على نحو مختلف في كلتا الشخصيتين.
اهتمام تروفو أيضًا بتبيان الحركة الغريبة التي يقوم بها أهل هذا المجتمع من لمس الجسد بشبق كتعبير واضح عن “الحيوانية”…فالدم تغيّره الحكومة مجانًا للتنشيط الزائد وهو الأمر الذي حدث لزوجة مونتاج عقب تناولها الحبوب.
وفي مجتمع الخوف والذعر هذا تبدو الشوارع خالية والحياة غير اجتماعية بالمرة، وعندما يفر مونتاج بكتاب إدجار ألان بو “قصص الرعب والخيال” يتأكد الشعور بالرعب تمامًا، مثلما يحترق كتاب سلفادور دالي ـ الرسام السريالي ـ الذي يعكس إحساسًا حيويًا ـ حتى وهو يحترق ـ بسريالية مجتمعاتنا المعاصرة، وعندما اختلقت وسائل الإعلام موت مونتاج لإبراز سيطرتها، أتت المقاومة من داخل الإنسان الأمر الذي يعكس رؤية برادبيري وتروفو التفاؤلية بمستقبل الإنسان إذا حافظ على وسائل المقاومة فيه.
وأولًا وأخيرًا إذا كان أدب الخيال العلمي هو سيناريو للمستقبل قائم أصلًا على عوامل واقعية في زماننا الراهن، فإن هذا هو ما أكده برادبيري ونجح في التعبير عنه فرانسوا تروفو.
عزيزي المشاهد…
أرجو أن لا أكون قد أطلت عليك.
أرجو لك وقتًا ممتعًا مع “فهرنهيت 451”.