“الطيور” (1963)
The Birds
حلقة 2/11/1981
عزيزي المشاهد… مساء الخير…
أحييك وأرحب بك مع حلقة جديدة من برنامج “نادي السينما”وأدعوك لقضاء ساعتين مع هتشكوك ومع “الطيور”.
فيلم الليلة عزيزي المشاهد يثير سلسلة من التساؤلات.
لماذا تهاجم الطيور هؤلاء الناس الآمنين في هذه المدينة الصغيرة؟ ولماذا تهاجم الطيور أصلاً؟!
وإذا كان الأصل في هذه الكائنات الطبيعية هو حالة التوحش فما الذي دفع بطيور النورس والغربان المسالمة إلى الارتداد إلى حالتها البدائية بعد مئات القرون من التعايش مع الكائن الإنساني؟
وهل تهاجم الإنسان لأنه شرير؟! ( على حد اتهام الأم في الفيلم) أم لأن “نهاية العالم” قد بدأت على حد قول السكير في الفيلم…أم ربما بسبب تعرض هذه الطيور لإشعاعات نووية ردتها إلى طبيعتها الوحشية؟!…أم لأن هجوم الطيور طبيعي ويحدث أحيانًا كما روى هتشكوك بنفسه على لسان أحد المزارعين القريبين من ضواحي سان فرانسيسكو حيث صور الفيلم.
قال المزارع لهتشكوك “إن الغربان قتلت بعض حملانه”، ومن المشهد الذي رواه المزارع للحملان المقتولة استلهم هتشكوك مشهد قتل المزارع في الفيلم.
ويذكر في تاريخ الفن التشكيلي عن الفنان فنسانت فان جوخ أثناء إقامته في منطقة آرل الفرنسية، التي صنع فيها أعظم لوحاته، وكان يرسم من الفجر إلى الليل لوحاته وسط المزارع والشمس تصب جنون أشعتها على رأسه…يذكر أن الغربان كثيرًا ما كانت تهاجمه.
هذه وغيرها تساؤلات لا يجيب عنها هتشكوك ولا يحاول…إنه فقط يقدم لك “الحالة” وعليك أنت الاستنتاج.
فيلم “الطيور” هو الفيلم رقم (51) في سلسلة أفلام هتشكوك الروائية الطويلة الستة والخمسين التي أخرجها على مدى نصف قرن كامل منذ عام 1925.
والفيلم بالتأكيد يستحق الانقسام النقدي إزاءه وهو الأمر الذي حدث عند عرض الفيلم في عام 1963.
فريق من النقاد قال بأن الفيلم أولًا غير هتشكوكي، بمعنى أنه لا يحتوي على الوصفة التقليدية المعروفة في أفلامه من ترقب متصاعد وغموض شديد وحبكة يعرف الجمهور بعض عناصرها ويجهل المفاتيح الأساسية لها، وأن الفيلم ثانيًا “مدعى” في معالجة جديدة وغريبة على هتشكوك لموضوع فيه جانب من الميتافيزيقيا، بمعنى أن أبطال هتشكوك دائماً بشر، مجرمون أو بريئون، لكن الطيور؟…طيور مدفوعة بقوة غامضة للهجوم على الإنسان؟ هذا ما لم يألفه عالم هتشكوك المعتاد.
وقال هذا الفريق بأن الفيلم ثالثًا ـ أو تبعًا لذلك ـ يخلو من جرعة الإثارة التقليدية التي تعودنا عليها في أفلام هتشكوك.
لا بأس!

فريق آخر من النقاد وقف على النقيض، وأعتقد أن بوسعنا الليلة أن نقدم تحليلًا موجزًا لبعض جوانب العمل، والتحليل بذاته يتضمن بعض نقاط الفريق النقدي الآخر الذي يرى في فيلم “الطيور” عملًا هتشكوكيًا خالصًا.
أولًا فيلم الليلة فيلم غير عادي في تاريخ ألفرد هتشكوك، وأول مظاهر اختلافه عن أفلامه الأخرى تمامًا هو أنه يستخدم قوة طبيعية أو (فيزيقية) دوافعها للهجوم مجهولة تمامًا (على نحو ميتافيزيقي) بأن يجعلها تعتدي على ما يبدو سكان قرية عادية مثل سائر القرى.
وهتشكوك هنا في اعتقادي دخل مرحلة جديدة كلية خرج منها بنهاية الفيلم ولم يعد إليها في أفلامه الخمسة التالية والأخيرة.
كان هتشكوك (الذي أخرج فيلمه عن رواية للكاتب دافن دي مورييه) أراد أن يعثر في الطبيعة على عناصر تدميرية أخرى غير الإنسان، عناصر لها عقل ومنطق وحكمة خاصة لا نعلمها من مثل هذا الهجوم، وبهذا المقياس تستطيع أن تعتبر فيلم الليلة فيلم كوارث أو فيلمًا تنبؤيًا، تنبؤ يقوم على ظواهر واقعية، والذين شاهدو الفيلم الوثائقي بالغ الأهمية والحائز على الأوسكار منذ بضعة أعوام “سجل هلستروم” سيتأكدون على مدى ساعتين من الحقيقة القائلة بأن الخطر على الإنسان المعاصر ليس من نفسه فقط ولكنه كامن في أضعف الحشرات والكائنات شأنًا، المتطورة منها وغير المتطورة. ويتنبأ هلستروم علميًا وعن طريق الرصد بأن النمل وبعض الحشرات ستساهم بقوة في فناء الجنس البشري.
هتشكوك هنا يقول كلمته باحتمالية حدوث مثل هذا الهجوم الغريب وعلى نطاق واسع.
هذه نقطة أولى.
ولكن “كيف” يقول هتشكوك كلمته؟
في حديثه الشهير مع المخرج الفرنسي فرنسوا تروفو تحدث هتشكوك عن ماذا فعل لكي يخلق جو الترقب والتوتر المعروف عنه… قال: “ما يكاد الجمهور يستوي على مقاعد الصالة حتى يقول “حسنًا والآن هات ما عندك!”…ويود الجمهور لو أنه استطاع أن يستبق الحدث: “أعلم مقدمًا ما الذي سوف يحدث” وعلي أن أقبل بالتحدي: “عظيم… هل تعرفون ماذا سيحدث!… سنرى”.
في فيلمي “الطيور” تأكدت من أن الجمهور سيعجز عن التوقع من مشهد إلى آخر”.
هناك ثلاثة سيكوانسات (مشاهد) أسياسية في تصوري لتذوق فيلم الليلة.
السيكوانس الافتتاحي:
حيث نرى البطلة ميلاني دانيلز (بيتي هيدرين) تدخل محلًا للعطور في سان فرانسيسكو بينما تتجمع طيور أخرى بشكل إنذاري في سماء جهمة فوق الميدان، في داخل المحل نرى الطيور حبيسة في أقفاصها، ويدور الحوار بينها وبين ميتشل (رود تايلور) حول “طيور الحب”، وهذه سخرية درامية أولى بالإضافة إلى قول ميتشل لها “سأضعك في قفص يا ميلاني”.
السيكوانس الثاني:
هو مشهد تجمع الطيور خارج المدرسة وفيه بلغ هتشكوك حدًا ممتازًا من إثارة الترقب بعدم القطع التقليدي بين الضحية والقاتل. يقول هتشكوك عن هذه النقطة: “كان الأسلوب القديم لإثارة الترقب في هذا السيكوانس هو بالتقطيع المتبادل بين التلاميذ والغربان المتجمعة، ولكن هذا أسلوب قديم عفا عليه الزمن”…لقد جعلت الجمهور يتساءل: “أين ذهب الأطفال بعد أن أعدتهم المدرسة للفرار!”
السيكوانس الثالث:
هو سيكوانس الهجوم على القرية بأكملها ومصور من أعلى، هنا تتحقق السخرية الدرامية إذ نرى البشر وخاصة ميلاني دانييلز البطلة في أقفاص زجاجية بينما الطيور طليقة حرة.
أعتقد أنه بهذا العرض الموجز نكون قد رددنا على النقاد الذين انتقدوا الفيلم بشدة.
باقي نقطتان:
الأولى خاصة بالصوت في الفيلم، ففيلم الليلة بلا موسيقى مؤلفة أو موضوعة، ولكنه يستمد موسيقاه الخاصة من تركيب شريط الصوت فيه، استخدمت هنا الأصوات الالكترونية على نطاق واسع لخلق تأثير درامي مرادف لقوة الحوار والحدث والصورة.
عن الصوت في مشهد هجوم الطيور الصامت على ميلاني قال هتشكوك: “لكي تصف الصوت بدقة يجب أن يتخيل المرء مرادفه بلغة الحوار، ما أردت الحصول عليه من هذا الهجوم الصامت هو كما لو كان رد الطيور على ميلاني: “والآن جئنا بك إلى حيث نريدك، ها نحن هنا، ليس علينا أن نصرخ في غضب أوفي انتصار، ما سنقوم به هو جريمة صامتة”…هذا هو ما كانت الطيور تقوله وهو ما حققه فنيو الصوت من خلال الصوت الالكتروني.
النقطة الأخيرة خاصة بأبطال الفيلم؛ “الطيور”، وهي طيور مدربة تدريبًا خاصًا على أن “تلمس” فقط رأس الإنسان أو تنقر نقرًا خفيفًا على يديه مثلًا، ومن يزور ستوديوهات يونيفرسال في هوليود سيستمتع بعرض لهذه الطيور المدربة تدريبًا عاليًا، لذا وليس عجيبًا أن تلتهم الطيور نصف ميزانية الفيلم تقريبًا!
بعد عرض الفيلم إن شاء الله لنا لقاء مع بعض رسائل الأخوة المشاهدين.
مع هيتش ومع طيوره أرجو لك وقتًا ممتعًا…وشكرًا لك.

عرض “الطيور”

Comments are closed.