“أيام الجنة”
Days of Heaven
1//1/1992
أعزائي المشاهدين…مساء الخير وكل عام وأنتم بخير…
ها هي الكويت التي لم تغب شمسها أبدًا قد عادت والحمد لله… وها قد عدنا مع مجموعة جديدة من الأفلام…منوعة كالعادة…لن ترضي بالضرورة كل أذواق المشاهدين… ولكن حسبُها أن تثير مناطق مختلفة من اهتماماتهم بهذا الفن الراقي الذي يحقق غايتي الفن الخالدتين: الإمتاع والتثقيف.
دورة برامجية جديدة مع عام جديد.
أعزائي المشاهدين…
أحييكم أطيب تحية وأرحب بكم مع حلقة جديدة من برنامج “نادي السينما” أقدم لكم فيها فيلماً “جميلًا” والجمال هنا ليس صفة مجازية ولكنها تعكس حقيقة ونتاج المدخل الجمالي والفلسفي للفيلم.
“أيام الجنة” الذي عرض في عام 1978 هو الفيلم الطويل الثاني – وللأسف آخر أعماله حتى الآن – للمخرج الأميركي الفنان تيرانس مالك الذي قدمته قبل أعوام عند عرض فيلمه الطويل الأول “بادلاندز”Badlands .
فرغم أنه لم يخرج سوى فيلمين خلال عشرة أعوام إلّا أن تيرانس مالك استحق وتلقى تقديرًا نقديًا يساوي ما يحصل عليه الفنانون الكبار غزيري الإنتاج في العادة. ويعكس الكم البسيط من أعماله اهتمامه الشديد “بالكيف” – وهي خاصية غير عادية وتعد مغامرة غير مجزية في عالم صناعة السينما.
في عام 1972 كتب مالك سيناريو “نثريات” Pocket Money الذي قام بتمثيله بول نيومان ولي مارفن، وهو فيلم يذكر بدراسة الشخصية أكثر من قصته (وهذا فضل يرجع في العادة إلى إتقان كاتب السيناريو). في العام التالي كتب مالك وأخرج أول أفلامه الروائية الطويلة “بادلاندز” وكان افتتاحًا مدهشًا لعمله السينمائي كفنان من فناني السينما الخالصة.
و”السينما الخالصة” تعبير يطلق على الأفلام التي تهتم بشكل رئيس بقوة الصورة الممتزجة مع الحوار القليل، ومن هنا يعتبر مالك فيلم الليلة – الذي تدور أحداثه في عام 1916 – تحية خاصة إلى عالم السينما الصامتة حيث كانت الصورة تعبر بمساحة أكبر من الحوار بين الممثلين، وهو اتجاه يعتبر دائمًا على هامش المجرى التجاري الرئيس للسينما الهوليودية.
كان على عشاق السينما الخالصة أن ينتظروا تحفة تيرانس مالك خمسة أعوام أخرى حتى عرض “أيام الجنة” في عام 1978 ليفوز على الفور ضمن ترشيحات عديدة بجائزة أوسكار أحسن تصوير للمصور الكوبي المبدع نستور ألمندروس، وجوائز أحسن مخرج لتيرانس مالك من الجمعية الوطنية للنقاد وجمعية نقاد نيويورك ومهرجان كان السينمائي الدولي.
أعزائي المشاهدين…
أرجو أن تقضوا وقتًا ممتعًا حقًا مع “أيام الجنة”… ولنا لقاء بعد الفيلم إن شاء الله.
عرض الفيلم
أهلًا ومرحبًا بكم مرة أخرى أعزائي المشاهدين…
لعل أبلغ تعليق على البناء النفسي لشخصيات “أيام الجنة” بيل وليندا وآبي… كما رسمها المخرج وكاتب السيناريو تيرانس مالك قد جاء في هذه الفقرة من كتاب هاملين جارلاند المعنون “حياة صبي في البراري”، والذي نشر في عام 1899، يقول فيه:
“كأنها جماعات من الرعاة تكتسح الريف في زمن الحصاد، عمال في سن الشباب متهورون وجذابون، خارجون على الأعراف والتقاليد، أقوياء لكنهم عمال غير دائمين، مشاغبون ومن الصعب السيطرة عليهم في كل الأوقات، كانوا يأتون في المواسم التي يكثر فيها العمل وترتفع الأجور، ولكنهم كانوا يتمتعون باستقلالية كبرى، كانوا حسني المظهر بطريقتهم الخاصة ومارسوا قدرًا كبيرًا من حريتهم.
روايات كثيرة جاءوا بها حول المدينة التي بدت ككل المدن في حكاياتهم، غابات مسمومة وقاسية، وكانوا مثخني الجراح.
لقد وفدوا من البعيد والمجهول ثم رحلوا صوب الشمال على نحو غامض تاركين فلاحي براري الشمس جاهلين بأسمائهم الحقيقية وشخصياتهم كيوم وفدوا لأول مرة.”
يقوم بناء الفيلم على الحركة البطيئة في البداية ولكن الإيقاع ما يلبث أن يتسارع مع تزايد وتيرة التوتر في العلاقات بين الشخصيات، تمامًا كما كان الأمر في “بادلاندز” بل أن “أيام الجنة” يعتبر تعميقًا لحبكة وأسلوب “بادلاندز”… فرار العاشقين بعد ارتكاب جريمة، واستخدام أسلوب الرواية على نحو غير عاطفي، في الأول كانت هولي تروي لنا ما فعلته مع كيت، وهنا تروي لنا ليندا قصة أخيها بيل مع آبي وتشاك، علاوة على رسم شخصيات غير زاعقة لا تمثل سوى أدوات في هذه البانوراما الجمالية الخالصة.
وعلى ذكر الجمال فقد ذكر الناقد روبين وود أنه بالنظر إلى اهتمام الفيلم بحقائق وإفرازات الرأسمالية الديمقراطية (ومنها الظلم الاجتماعي والفقر والقهر الطبقي) فإن “الجمال” هنا يمثل مشكلة محتملة، بل أنه يقترب على نحو خطير (خاصة في المشاهد الافتتاحية) من تجميل التعاسة على نحو ما فعل دافيد لين في “الدكتور جيفاجو” حيث يصرخ المشاهد للوهلة الأولى “أليس هذا تصويراً جميلًا؟” بدلًا من أن يقول: “أليس هذا الواقع مفزعًا؟”. ولكن تميز “أيام الجنة” بدا واضحًا في فصله بين إحساسه بالجمال والبؤس الإنساني.
إن عنصر المأساة في الفيلم كامن في وعيه الشديد بالقهر الطبقي، ولكن مصدر الجمال هنا هو في الطبيعة وليس فيما صنعه الإنسان من نظم وآليات للقهر.
أما الحديث عن امتياز التصوير فيطول فعلًا، وقد خصّص المصور الكبير نستور ألمندروس فصلًا كاملًا (هو أطول فصول الكتاب) في كتابه “رجل وكاميرا” لعرض تجربته الفريدة مع تيرانس مالك. وضمّن الفصل عرضًا لإبداعاته الخاصة في هذا الفيلم وتجديداته التصويرية وخاصة في التصوير الليلي الذي اعتمد فيه على مصادر الضوء الطبيعية وحدها وهي النيران أو المصابيح الغازية خاصة خلال مشاهد الحريق. وهي المشاهد التي استغرق تصويرها حوالي أسبوعين في كل ليلة يشعلون النار في حقل قمح جديد!
كما بيّن ألمندروس أن مهمته الأساسية كانت تتمثل في تبسيط التصوير وتنقيته من المؤثرات الضوئية المصطنعة التي تسود معظم أفلام اليوم.
وأتخذ من أفضل الأفلام الصامتة (كأفلام تشابلن وجريفيث) نموذجًا في بساطة التصوير، كما أستلهم (كأي مصور مبدع) التراث الفني التشكيلي خاصة في المشاهد الداخلية التي نرى فيها انعكاس مصدر الضوء الخارجي الطبيعي من النافذة على وجه الشخصية في الداخل ( كما في لوحات الفنان الهولندي فيرمير).
وهذا شأن المصور الفنان.
بهذا أصل معكم أعزائي المشاهدين إلى ختام حلقة الليلة… إلى أن نلتقي إن شاء الله مساء الأربعاء المقبل مع حلقة جديدة… أرجو لكم جميعًا أوقاتًا مفيدة وممتعة.
شكرًا لكم وإلى اللقاء وتصبحون على خير…